فصل: تفسير الآية رقم (19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (19):

{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)}
{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النار} بيان لأضداد المذكورين على طريقة الإجمال وتسجيل عليهم بحرمان الهداية وهم عبدة الطاغوت ومتبعوا خطواتها كما يلوح به التعبير عنهم بمن حق عليه كلمة العذاب فإن المراد بتلك الكلمة قوله تعالى: {لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85] والآية على ما قيل نزلت في أبي جهل وأضرابه، والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ومن شرطية على ما ذهب إليه الحوفي وغيره وجواب الشرط {فَأَنتَ تُنقِذُ} إلخ والهمزة قبله لاستطالة الكلام على نحو قوله:
لقد علم الحزب اليمانون أنني ** إذا قلت أما بعد أني خطيبها

لأن دخول الهمزة في الجواب أو الشرط كاف تقول: أإن أكرمك تكرمه كما تقول إن أكرمك أتكرمه ولا تكررها فيهما إلا للتأكيد لأن الجملتين أعني الشرط والجزاء بعد دخول الأداة مفردان والاستفهام إنما يتوجه على مضامين الجمل إذا كان المطلوب تصديقًا والإنكار المفاد بالهمزة متعلق ضمون المعطوف والمعطوف عليه إلا أن المقصود في المعطوف إنكار الجزاء والتقدير أأنت مالك أمر الناس قادر على التصرف فيه فمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه على معنى لست أنت مالك أمر الناس ولا أنت تقدر على الإنقاذ بل المالك والقادر على الإنقاذ هو الله عز وجل، وعدل عن فأنت تنقذه إلى ما في «النظم الكريم» لمزيد تشديد الإنكار والاستبعاد مع ما فيه من الإشارة إلى أنه نزل استحقاقهم للعذاب وهم في الدنيا المشعر به الشرط منزلة دخولهم النار وأنه مثل حاله عليه الصلاة والسلام في المبالغة في تحصيل هدايتهم والاجتهاد في دعائهم إلى الإيمان بحال من يريد أن ينقذ من في النار منها. وفي «الحواشي الخفاجية» نقلًا عن السعد أن في هذه الآية استعارة لا يعرفها إلا فرسان البيان وهي الاستعارة التمثيلية المكنية لأنه نزل ما يدل عليه قوله تعالى: {أَفَمَنِ} إلخ من استحقاقهم العذاب وهم في الدنيا منزلة دخولهم النار في الآخرة حتى يترتب عليه تنزيل بذله عليه الصلاة والسلام جهده في دعائهم إلى الإيمان منزلة إنقاذهم من النار الذي هو من ملائمات دخول النار ثم قال: وقد عرفت من مذهبه أن قرينة المكنية قد تكون تحقيقية كما في نقض العهد انتهى فتأمل.
وقيل: إن النار مجاز عن الضلال من باب إطلاق اسم المسبب على السبب والإنقاذ بدل الهداية من ترشيح المجاز أو مجاز عن الدعاء للإيمان والطاعة وليس بذاك، وجوز أن يكون الجزاء محذوفًا وجملة {فَأَنتَ تُنقِذُ} إلخ مستأنفة مقررة للجملة الأولى والتقدير أفمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تخلصه أفأنت تنقذ من في النار.
ولا فرق بين الوجهين في أن الفاء في الأولى للعطف على محذوف ولا في كون المعنى على تنزيل استحقاق العذاب وهم في الدنيا منزلة دخولهم النار وتمثيل حاله عليه الصلاة والسلام في المبالغة في تحصيل هدايتهم بحال من يريد أن ينقذ من في النار منها، نعم الكلام على الأول جملة وعلى الثاني جملتان، واستظهر أبو حيان أن {مِنْ} موصولة مبتدأ والخبر محذوف، وحكي أن منهم من يقدره يتأسف عليه ومنهم من يقدره يتخلص منه ومنهم من يقدره فأنت تخلصه، ولا يخفى أن التقدير الأخير أولى، وذكر أن النحاة على أن الفاء في مثل هذا التركيب للعطف وموضعها قبل الهمزة لكن قدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام وقال: إن القول بأن كلًا منهما في مكانه قول انفرد به الزمخشري فيما علمنا وفي المغني ترجيح القول بأن الهمزة مقدمة من تأخير وعليه يقدر المعطوف عليه ما أنت مالك أمرهم أو ما أخبر الله تعالى به واقع لا محالة أو كل كافر مستحق للعذاب أو نحو ذلك مما يناسب المعنى المراد.

.تفسير الآية رقم (20):

{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)}
{لكن الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ} استدراك بين ما يشبه النقيضين والضدين وهما المؤمنون والكافرون وأحوالهما، والمراد بالذين اتقوا الموصوفون بما عدد من الصفات الفاضلة، والغرف جمع غرفة وهي العلية أي لهم علالي كثيرة جليلة بعضها فوق بعض {مَّبْنِيَّةٌ} قيل: هو كالتمهيد لقوله تعالى: {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا} أي من تحت تلك الغرف الفوقانيات والتحتانيات {الانهار} أي مبنية بناءًا يتأتى معه جري الأنهار من تحتها وذلك على خلاف علالي الدنيا فيفيد الوصف بذلك أنها سويت تسوية البناء على الأرض وجعلت سطحًا واحدًا يتأتى معه جري الأنهار عليه على أن مياه الجنة لما كانت منحدرة من بطنان العرش على ما في الحديث فهي أعلى من الغرف فلا عجب من جري الماء عليها فوقًا وتحتًا لكن لابد من وضع يتأتى معه الجري فالوصف المذكور لإفادة ذلك.
وقال بعض الأجلة: الظاهر أن هذا الوصف تحقيق للحقيقة وبيان أن الغرف ليست كالظلل حيث أريد بها المعنى المجازي على الاستعارة التهكمية، وقال بعض فضلاء إخواننا المعاصرين: فائدة التوصيف بما ذكر الإشارة إلى رفعة شأن الغرف حيث آذن أن الله تعالى بانيها وماذا عسى يقال في بناء بناه الله جل وعلا.
وأقول والله تعالى أعلم: وصفت الغرف بذلك للإشارة إلى أنها مهيأة معدة لهم قد فرغ من أمرها كما هو ظاهر الوصف لا أنها تبنى يوم القيامة لهم، وفي ذلك من تعظيم شأن المتقين ما فيه، وفي الآية على هذا رد على المعتزلة وكأن الزمخشري لذلك لم يحم حول هذا الوجه واقتصر على ما حكيناه أولًا مع أن ما قلناه أقرب منه فليحفظ.
{وَعَدَ الله} مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله فإنه وعد أي وعد {لاَ يُخْلِفُ الله الميعاد} لما في خلفه من النقص المستحيل عليه عز وجل.

.تفسير الآية رقم (21):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)}
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} استئناف وارد إما لتمثيل الحياة الدنيا في سرعة الزوال وقرب الاضمحلال بما ذكر من أحوال الزرع تحذيرًا من الاغترار بزهرتها أو للاستشهاد على تحقق الموعود من الأنهار الجارية من تحت الغرف بما يشاهد من إنزال الماء من السماء وما يترتب عليه من آثار قدرته سبحانه وإحكام حكمته ورحمته، والمراد بالماء المطر وبالسماء جهة العلو، وقيل: الأجرام العلوية وكون إنزال المطر منها باعتبار أنه بأسباب ناشئة منها فإن تصاعد الأبخرة وتكون الغيوم بسبب جذب الشمس واختلاف أوضاعها ونحو ذلك من الأسباب التي يعلمها الله تعالى، وأما كون إنزال المطر نفسه من جرم السماء المعروفة نفسها فكثير ما يرتفع سحاب ويمطر مطرًا غزيرًا وهناك من هو على ذروة جبل لا سحاب عنده ولا مطر والتزام أن المطر في ذلك نازل من جرم السماء أيضًا على السحاب لكن لا يشاهده من هو مشرف على السحاب وواقف فوق الجبل لا يخفى حاله؛ وقيل: المراد بالماء كل ماء في الأرض، والمراد بالإنزال المذكور الإنزال في مبدأ الخليقة وذلك أنه عز وجل لما خلق الأرض خلقها خالية من الماء فأنزل من بحر تحت العرش ماء {فَسَلَكَهُ} فأدخله {يَنَابِيعَ فِي الأرض} أي في ينابيع أي عيون ومجاري كائنة في الأرض كالعروق في الأجساد فعلى الأول: يقتضي ظاهر الآية أن ماء العيون والقنوات من ماء المطر وعلى الثاني: ليس منه، وشاع عن الفلاسفة أن ماء العيون وما جرى مجراها من الأبخرة قالوا: إن البخار إذا احتبس في الأرض يميل إلى جهة وتبرد بها فتنقلب مياه مختلطة بأجزاء بخارية فإذا كثر بحيث لا تسعه الأرض أوجب انشقاقها فانفجر منها العيون، ورده أبو البركات البغدادي فقال في «المعتبر»: السبب في العيون وما يجري مجراها هو ما يسيل من الثلوج ومياه الأمطار لأنا نجدها تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها وأن استحالة الأهوية والأبخرة المنحصرة في الأرض لا مدخل لها في ذلك فإن باطن الأرض في الصيف أشد بردًا منه في الشتاء فلو كان سبب هذه استحالتها لوجب أن تكون العيون والقنوات ومياه الآبار في الصيف أزيد وفي الشتاء أنقص مع أن الأمر بخلاف ذلك على ما دلت عليه التجربة، وقال الميبدي: الحق أن السبب الذي ذكره صاحب المعتبر معتبر لا محالة إلا أنه غير مانع من اعتبار السبب الذي ذكر يعني ما شاع، واحتجاجه في المنع إنما يدل على أنه لا يجوز أن يكون ذلك هو السبب التام لا على أنه لا يجوز أن يكون ذلك سببًا في الجملة اه.
وفي شرح المواقف اختلفوا في أن المياه متولدة من أجزاء مائية متفرقة في عمق الأرض إذا اجتمعت أو من الهواء البخاري الذي ينقلب ماء.
وهذا الثاني وإن كان ممكنًا إلا أن الأول أولى لأن مياه العيون والقنوات والآبار تزيد بزيادة الثلوج والأمطار، والأولى عندي أن يحمل الماء في الآية على المطر ونحوه من الثلج، والآية تدل على أن ذلك الماء يسلكه الله تعالى في ينابيع في الأرض ولا تدل على أن ما في الينابيع ليس إلا ذلك الماء فيجوز أن يكون بعض ما فيها هو الماء المنزل من السماء والبعض الآخر حادثًا من الهواء البخاري بانقلابه ماءً بأسباب يعلمها الله عز وجل، وحمل الإنزال على الإنزال في مبدأ الخليقة على ما سمعت مع كونه مما لم أقف على خبر صحيح يقتضيه خلاف الظاهر في الآية جدًا لأن الخطاب في {أَلَمْ تَرَ} عام ولا يتأتى العموم في رؤية ذلك، وكأنه يتعين عليه جعل الخطاب خاصًا بسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم والمراد ألم تعلم ذلك بالوحي ومع ذلك لا يخفى حال حمل الآية على ما ذكر، وقريب مما قيل ما حكاه الزمخشري في الآية عن بعض من أن كل ماء في الأرض فهو من السماء ينزل منها إلى الصخرة ثم يقسمه الله تعالى بين البقاع، هذا لكن يعكر على ما اخترناه ظاهر ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: ليس في الأرض ماءً إلا ما أنزل الله تعالى من السماء ولكن عروق في الأرض تغيره فمن سره أن يعود الملح عذبًا فليصعد. وأخرج نحوه عن سعيد بن جبير. والشعبي، فإن صح هذا الخبر وقلنا إنه في حكم المرفوع فما علينا إذا قلنا بظاهره فالعقل لا يأباه والله تعالى على كل شيء قدير، هذا وجوز أن تكون الينابيع جمع ينبوع عنى النابع فإنه كما يطلق على المنبع يطلق على ما ذكر وحينئذٍ تكون منصوبة على الحال، والمعنى فسلكه مياهًا نابعة في الأرض، ولا يخلو من الكدر لأنه لو قصد هذا كان الظاهر أن يقال من الأرض وعلى ما هو المشهور يكون {يَنَابِيعَ} منصوبًا بنزع الخافض كما أشرنا إليه.
واحتمال كونه منصوبًا على المصدرية في إطلاقيه بأن يكون الأصل فسلكه سلوكًا في ينابيع أي مجاري فحذف المصدر وأقيم ما هو في موضع الصفة مقامه أو يكون الأصل فسلكه سلوك ينابيع أي مياه نابعة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه بعيد كما لا يخفى.
{ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ} أي بواسطته مراعاة للحكمة لا لتوقف الإخراج عليه في نفس الأمر، وقالت الأشاعرة: أي يخرج عنده بلا مدخلية له بوجه من الوجوه سوى المقارنة {زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أي أنواعه وأصنافه من بر وشعير وغيرهما أو كيفياته المدركة بالبصر من خضرة وحمرة وغيرهما أو كيفياته مطلقًا من الألوان والطعوم وغيرهما على ما قيل، وشمل الزرع المقتات وغيره، وثم للتراخي في الرتبة أو الزمان، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة {ثُمَّ يَهِيجُ} ييبس، وظاهر كلام أهل اللغة أن هذا معنى حقيقي للهيجان، ويفهم من كلام بعض المفسرين أن يهيج عنى يثور واستعماله عنى ييبس من مجاز المشارفة لأن الزرع إذا يبس وتم جفافه يشرف على أن يثور ويذهب من منابته {فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} من بعد خضرته ونضارته.
وقرئ {مصفارًا} {مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حطاما} فتاتًا متكسرًا كأن لم يغن بالأمس، ولكون هذه الحالة من الآثار القوية علقت بجعل الله تعالى كالإخراج. وقرأ أبو بشر {ثُمَّ يَجْعَلُهُ} بالنصب قال صاحب الكامل: وهو ضعيف ولم يبين وجه النصب، وكأنه إضمار أن كما في قوله:
إني وقتلي سليكًا ثم أعقله

ولا يخفى وجه ضعفه هنا {إِنَّ فِي ذَلِكَ} إشارة إلى ما ذكر تفصيلًا، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الغرابة والدلالة على ما قصد بيانه {لِذِكْرِى} لتذكيرًا عظيمًا {لاِوْلِى الالباب} لأصحاب العقول الخالصة عن شوائب الخلل وتنبيهًا لهم على حقيقة الحال يتذكرون بذلك حال الحياة الدنيا وسرعة تقضيها فلا يغترون ببهجتها ولا يفتنون بفتنتها أو يجزمون بأن من قدر على إنزال الماء من السماء والتصرف به على أتم وجه قادر على إجراء الأنهار من تحت تلك الغرف، وكأن الأول أولى ليكون ما تقدم ترغيبًا في الآخرة وهذا تنفيرًا عن الدنيا، وقيل المعنى إن في ذلك لتذكيرًا وتنبيهًا على أنه لابد لذلك من صانع حكيم وأنه كائن على تقدير وتدبير لا عن تعطيل وإهمال وهو عزل عما يقتضيه السياق على أن الأنسب بإرادة ذلك ذكر الآثار غير مسندة إليه عز وجل فحيث ذكرت مسندة إليه سبحانه فالظاهر أن يكون متعلق التذكير والتنبيه شؤونه تعالى أو شؤون آثاره حسا أشير إليه لا وجوده جل وعلا. وقوله تعالى: